الأربعاء، 11 مايو 2011

الإسكندرية شباك مفتوح على الجنة


لورانس داريل
قلت ساذهب الى أرض ثانية وبحر آخر ..الى مدينة أخرى تكون افضل من تلك المدينة ..كل محاولاتى مقضىٌ عليها بالفشل ..وقلبى دفن كالميت .........لن تجد أرضا جديدة ولا بحراً جديد...... ستلاحقك هذه المدينة دوما ...ستسكن نفس الشوارع ويشيب شعر رأسك فى نفس المنازل....سوف تنتهى هنا دائماً..إنسِ اى مكانٍ آخر ..فانت لا تملك سفينة ولا طريق ....
بهذه الأبيات يقدم لنا قسطنطين كفافيس طرحاً للرؤية المتأججة فى نفسه نحو الإسكندرية التى ستظل تتعقبه تطارده دوماً, فهى تسكنه وتحاصره دائماً...
وسنراه يؤكد أن مصير الناس فى الإسكندرية مشابه لمصير أهل طروادة المحاصرة ,هم يعيشون سطوتها حتى الثمالة ,و مجبولون على البقاء فيها ,من يحاول الإبتعاد عنها نراه يعود اليها مرة أخرى مسرعا فى لهفة وشوق ,هى دائماً الملجا والغواية والفتنة حتى ولو انتابتها اعراض الخراب والموت...
تستقر الإسكندرية فى أعماق الشاعر وقصائده رمزاً للحياة والمصير الانسانى المطلق ,وشيئاً جوهرياً فى مسيرته ,فهى تعيش معه دوما وتتواصل مع أنفا سه و وتلاحقه اينما كان فى الوجود ........
                                          الكوزموبوليتية
                                                                           
حينما نتحدث كأفراد عن الإسكندرية فى حياتنا وخاصة ان كنا من غير سكانها سنجد للحديث مذاقا خاصاً مخلوطاً ببعض المغامرات و وحينها لابد وأن نتذكر الرباعية الشهيرة "رباعية الإسكندرية " للورانس داريل ..التى احتفت بظهورها كتحفة أدبية رائعة جميع الأوساط الثقافية العالمية ,والتى سرعان ما خلعت على صاحبها البريطانى لورانس داريل ثوب الشهرة والصدارة ...كاتب الاسكندرية الذى خلد روح المدينة "الكوزموبوليتية " عاصمة الذاكرة ومدينة الرومان والإغريق التى بُنيت " كالسد لمنع طوفان الظلمة الإفريقية " كما تصفها الرباعية .
حيث جاء طرحه معبرا عن شعور أدباء ومثقفى الإسكندرية الشاعرين بالغربة تجاه هذا الانقسام الذى بات جلياً امامهم بين " المدينة الأوروبية " مدينة الكورنيش والمقاهى فى شا رع فؤاد وبين " الأحياء العربية "والتى تناولها بشكل فلكلورى فانتازى غرائبى على غرار الإحتفالات الشعبية بالموالد او ببيوت الدعارة أحياء تصدح بالإصوات المزعجة والروائح الكريهة .
ثم أتى الكتاب الذين عاشوا فترة ازدهار الجاليات الأجنبية مثل " ادورد الخراط "وعبروا فى كتاباتهم عن نوع من الحنين لفترة التعايش بين جميع الجنسيات والأديان التى عرفتها الإسكندرية لذا وصفوا الرباعية بأنها بعيدة تماما عن مدينتهم كتب الخراط يقول أن داريل لم يعرف الإسكندرية فهى عنده وهم غرائبى ............
.....تقع أغلب أحداث الرواية كما ورد بالجزء الأول منها "جوستين 1957" فى بهو فندق " سيسيل " القديم المطل على البحر ...حيث يلتقى الكاتب الإنجليزى الشاب " دارلى " باليهودية المصرية "جوستين " المتزوجة من " نسيم " الذى ينحدر من سلالة إحدى العائلات الأرستقراطية المسيحية السكندرية ,تنشأ بينهما علاقة غرامية وتتصاعد الأحداث فى هذا الإطار وتزيد تعقيداً حينما يرتبط " دارلى " بعلاقة مشابهة براقصة يونانية شابة هى " ميلسيا "..وتستمر الأحداث فى حالة من البحث الدائم لهذه الشخصيات عن ذواتهم وحقائقهم من خلال خبراتهم الحسية ..ساعين لاكتشاف معانى الحب والجنس والحياة والواقع ......
ويزيد التعقيد فى الأجزاء الثلاثة التالية "بلتازار 1958 " _ "ماونت أوليف 1958 " _"كيليا 1960 " وتستمر الأحداث فى اطار مغلق مختنق يتخلله طرح للعديد من المؤمرات السياسية التى ُتدبر بمعرفة رجال الدبلوماسية البريطانية العاشقون لمصر ونسائها ..ورجال السلطة المصرية التى يصورهم داريل كمثالا للمستبد الأسيوى الفاسد .تدور تلك الأحداث فى الإسكندرية مدينة الجنس والموت كما يصفها داريل فى رسائله للروائى الأميركى هنرى ميللر ....

ويشير الناقد الكبير "شوقى بدر يوسف " إلى أن الحياة فى الإسكندرية تمور بايقاعها الخاص ويستمد ملامحه من رحلة زمانية طويلة قوامها أكثر من ألفى عام امتزج فيها الواقع بالخيال والفن بالأدب وفلسفة الفكر بالرؤية الإبداعية للفنان , والاديب الذى كتب عن الإسكندرية ابداعاً حقيقياً عبر فيه عما يعتمل داخلها من رؤى خاصة وما يميزها عن غيرها من سمات لها خصوصيتها حتى اكتسبت الإسكندرية شهرتها سواء فى جماليات طبيعتها أو عالمها السرى المخيف المختبئ وراء قناع المكان .

والرواية هى الأخرى رحلة تمور فى الحياة تجسد ملامحها وتضئ ما ورائها من خطوط اجتماعية وسياسة عريضة ,حيث تبلور الواقع وتبرز الظلال والمكان باهتمام الرواية العالمية والعربية حتى أصبحت من العلامات الخاصة فى المجال الإبداعى ..
تحدث عنها الروائى الإنجليزى أ.م . فورستر فسماها " المدينة المكونة من الكلمات " , وعن نفس المرحلة كتب الروائى اليونانى " ميشيل بيرينيس "روايته "أوديسا العصر الحديث "أو "غالانوس " التى تروى عن أسرة يونانية امتزج واقعها بواقع المدينة حتى أصبحا جزءاً واحداً , ورمزا لعلاقة الإسكندرية بالأجانب الذين إستوطنوا أحياءها المختلفة وعاشوا فيها , وإرتبطوا بأماكنها الحقيقية ,حتى صاروا جزءاًمن تركيبتها الإجتماعية المعروفة


                                     إسكندرية نجيب


وقد تواجدت الاسكندرية فى الرواية المصرية بإلحاح شديد من خلال زخم الحياة والعلاقات الانسانية المتشعبة.
والمتطورة التى تمور داخلها. ولعل خير مثال لذلك روايتى الكاتب الكبير نجيب محفوظ "ميرامار" و "السمان والخريف" بمحتواهما السياسى والاجتماعى والتى تبدو فيهما الاسكندرية بظلالها الخاصة
وكأنها تتحكم فى مصائر من يعيشون فيها وتوجههم كيفما تشاء يعيشون فيها ففى "السمان والخريف" نجد أن انتقال عيسى الدباغ إلى الاسكندرية للبحث عن الأمان والاستقرار أثناء هروبه من القاهرة يكتشف الحقيقة التى طالما تاق إليها......وفى ميدان سعد زغلول يلتقى مع الشاب الثورى الذى سبق و أُعتقله أثناء عمله ، يتحاوران، ويذكره الشاب بمصيره الآن حيث يقف فى الظلام تحت تمثال سعد زغلول ويتركه ويسير إلى شارع صفية زغلول ، وفجأة ينتفض عيسى الدباغ كأنه استيقظ من نومه على مقولة الشاب ويسير وراءه حيث الحياة الجديدة....فهكذا يتعرف على شاطئ المدينة بالحقيقة التى طالما تاق اليها , و بحث عنها .
وهكذا نجد أن نجيب محفوظ فى روايتى "ميرامار" و "السمان والخريف" قد صور الاسكندرية تصويراً رائعاً من خلال شخصيتين متناقضتين "زهرة" الخادمة النقية التى تتعامل مع الجميع من منطق الحب والحرية، و"ريرى" العاهرة التى دفعت عيسى الدباغ إلى أن يعرف معنى الحياة بمحافظتها على كرامتها التى جرحها عيسى الدباغ حين كان فى أوج قوته. والاسكندرية فى هذا التواجد تكشف عن نفسها تجاه ممارسات الشخصيات التى تعيش فيها ، وهى كما قال عنها نجيب محفوظ فى مستهل رواية "ميرامار" "الاسكندرية أخيراً. الاسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع".

                                          (1)


من الروائيين الذين تناولوا الاسكندرية ؛ المكان والزمان والخلفية والشخصية التى تضطرم بشتى رؤاها ......
ابراهيم عبد المجيد الذى تعتبر كتاباته عنها ملمحاً خاصاً يميز عالمه الروائى، ففى رواية "الصياد واليمامة" نجد أن الاسكندرية تفتح ذراعيها المرحبتين للشخصية الوافدة من الجنوب وتحاول أن تعطيها الأمان والطمأنينة، وتحاول أن تتواءم معها اجتماعياً وسياسياً من خلال العشرة والحياة والهموم اليومية الحياتية. وفى رواية "بيت الياسمين" نجد أن شخصية "شجرة محمد على" –الشخصية المحورية فى الرواية-ما هى إلا شخصية أفرزتها الاسكندرية ووضعتها فى طريق الحياة السياسية... لتجد نفسها فى النهاية صورة ذاتية متناثرة مثيلاتها فى أماكن كثيرة فى مجتمعنا المصرى، إلا أنها هنا فى الاسكندرية كان لها صدى خاص على خريطة الواقع السياسى والاجتماعى، تعيشه بعقلها وقلبها ونبضها و كل ما لديها من محاور ذاتية سواء كانت نابعة من أنانيتها الخاصة، أو نابعة من انتمائها إلى زمانها ومكانها التى تعيشه والاسكندرية تظهر فى روايات ابراهيم عبد المجيد واضحة جلية من خلال مراحل التغيير التى طرأت على المجتمع فى مصر خاصة المرحلة التى أعقبت نكسة يونيه 1967 وكذا من خلال التلاحم بين الزمان والمكان وما يدور فى المدينة من ممارسات ، وما تتسم به شخصيتها من تميز خاص فى ملامح التغيير


                                          (2)


وعن التناغم البيئى بين البيئة الشعبية السكندرية فى ابى قير ووفرة الشبه مع البيئة الشعبية اليونانية المترتبطة بالتراث اليونانى متمثلة فى مسيو " نانا " الباحث عن مقبرة الاسكندر الأكبر فى رواية " سكر مر " كتب الأديب محمود عوض عبد العال ..كما كتب أيضاً مصوراًالبيئة الشعبية المخيفة لحى باكوس فى رواية " عين السمكة " من خلال عرضه لشخصية "فاطمة السودا " تلك القوادة التى تسكن سور كنيسة باكوس ,والإحباط الذى زامن نكسة 1967 وصاحب المثقفين
ويؤكد شوقى بدر يوسف الناقد فى تحليلاته الأدبية على أن هناك العديد من الروائيين السكندريين عبروا فى كتاباتهم الروائية تعبيرات واقعية عن بيئات مختلفة ومن هؤلاء " ادوار الخراط , سعيد سالم , سعيد بكر ,مصطفى نصرى ..واوهو الروائى الوحيد الذى اتخذ من اللإسكندرية مسرحا لكل أعمال الروائية معبرا فيها عن عالمها السرى المخيف وعن شخصياتها المنتشرة فى قاع المجتمع السكندرى .
كذلك جاءت رواية بدر الديب "أجازة تفرغ " تعبيرا واقعيا حى عل صخب الحياة الواقعية فى الإسكندرية بخيرها وشرها وطابعها الخاص وما يدور فيها من ممارسات يجسد ذلك من خلال حياة فنان تشكيلى فر من القاهرة أثناء إحدى حملات الإعتقالات بسبب آرائه و إنتماءاته السياسية ..فإختار منطقة الملاحات القريبة من الما كس مخباءاً ومكاناً لممارسة طقوسه الفنية ..فعربد فى الفن والحياة حتى لقى مصرعه ,فأظهر الإسكندرية لوحة فاقعة الالوان صاخبة الموسيقى سكب فيها من روحه وبث فيها من مشاعره وأحاسيسه الفياضة حتى أنها تجسدت له موديلا جميلا عبث به واستباح منه المغريات .
وهكذا فإنه بين الإسكندرية والفن والإبداع علاقة تبدوا كالسحر يتماهى فيها كل طرف فى الآخر لتتشكل لدى الرائى والقارئ لوحة متناغمة الألوان والظلال تشع عبيرا يقطر شهداً على صفحات الأدباء..و الرواه تعشقعها الألسن والآذان ..وتسحر بها العيون وتفتن بها القلوب حينما تراها مشاهداً سينمائية على شاشات العرض ,فى مهدها فاتنة منذ فتنت الاسكندر الأكبر ببرها وبحرها و أغرمت بها شتى الجاليات التى مازالت تسير بها بالشوارع ,ال حكايات ميرامار وجوستين ورسائل البحر لداوود عبد السيد ........
الاسكندرية بين بين عوالم من الفن الخاص ليست نصاً أدبياً كما أشاعوا بل ملهمة العباقرة

                                                نشر بجريدة القاهرة 10 /5 / 2011